لم تقتصر تجارة الجنس على بيع الكوريات الشماليات داخل الصين، بل تعدت ذلك إلى بيعهن في بلد ثالث، الأمر الذي أكسبها بعدا دوليا.تجارة الجنس أو كما تُعرف اصطلاحاً بتجارة الرقيق الأبيض، ربّما لم تعد في عصرنا الحالي تتصدر مشاهد الإجرام وانتهاكات حقوق الإنسان كما كانت قبل بضع مئات من السنين، واقتصر وجودها على مافيات تنشط في بعض بقاع العالم، ومع ذلك يبدو أنّ الصين لم تكتفِ بالهيمنة الإقتصادية على كثير من الدول، بل عمدت إلى إحياء تلك التجارة بمفهومها الواسع، أي عبر تنظيمها بأعلى المستويات، وعلى أراض تابعة لها، ضحاياها بأغلبهن نساء وفتيات كوريات شماليات، هربن من جحيم العيش تحت نظام كيم جونغ أون، ليجدوا جحيماً آخر لا يقل فظاعة عن سابقه، جحيم الاسترقاق والعبودية الجنسية.
وعبر بحث مطوّّل نشرته مجلة “الاتجار والاستغلال البشري” في باريس، تسلّط الباحثة في مبادرة المستقبل، “يون هيي سون” الضوء على جحيم تجارة الجنس، التي نشطت في مناطق في الصين، يقطنها كوريون شماليون أغلبهم من النساء والفتيات، هربن من نظام الاستبداد في بيونغ يانغ، وعاشوا كلاجئات في ذلك البلد، قبل أن تبدأ الحكومة بترحيل بعض منهن، والباقيات أجبرن على الانخراط في تجارة الجنس، وفي أحسن الأحوال، الإجبار على الزواج القسري من صينيين.
وتقدّر الباحثة أعداد اللاجئين بنحو 200 ألف شخص غير مسجلين ولا يتمتعون بأيّ حماية قانونية، ويختبئون خوفاً من ترحيلهم إلى بلدهم كوريا الشمالية، وما ينتظرهم هناك من مصير أسود، الإعدام أبرز معالمه.
البحث يبدأ بسرد لمحة عن انتهاكات حقوق الإنسان في كوريا الشمالية، وكيف أسهمت الفترة ما بين انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 وحرب فيتنام (1955-1975) في نسيان الحرب الكورية (1950-1953) وما خلفته من أزمة إنسانية ابتليت بها بيونغ يانغ، لتتصدر قائمة أكثر الدول في العالم انتهاكاً لحقوق الإنسان.
وعلى الرغم من تقديم الآلاف من الشهادات إلى لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة التي أنشأت في العام 2014، فإنّ العالم إلى يومنا هذا، بقي معرضاً عن إدراج أزمة كوريا الشمالية الحقوقية، كأكبر أزمة في العالم وإن صدرت تقارير أو تصريحات هنا أو هناك، تدين الانتهاكات في ذلك البلد.
وفي مواجهة التراخي العالمي وانتهاكات حقوق الإنسان التي لا تعد ولا تحصى في ذلك البلد، بما في ذلك الإبادة والقتل والاسترقاق والتعذيب والسجن والاغتصاب والإجهاض القسري وغيره من أشكال العنف الجنسي والاضطهاد السياسي، والتهجير القسري للسكان، والاختفاء القسري للأشخاص، والعمل اللاإنساني المتمثل في التسبب عن عمد بمجاعة مطولة، فر ما يصل إلى 200000 كوري شمالي من بلادهم إلى البر الرئيسي للصين.
إحصائيات
وقدر البحث الحقوقي أنّ 60 % من اللاجئات الكوريات الشماليات، يتم الاتجار بهن في الصين، في مجال الجنس.
ومن النسبة السابقة، تم إجبار ما يقرب من 50 % من الفتيات والنساء الكوريات على الانخراط في الدعارة، وتمّ بيع أكثر من 30 % منهن بغرض الزواج القسري، و 15 % تم الضغط عليهن لممارسة الجنس عبر الإنترنت. كما أن نحو 50 % من ضحايا تجارة الجنس، وقعوا بها في غضون 12 شهراً من دخولهم الصين، و 25 % في أقل من شهر واحد.
ومن دون أدنى شك، فقد ساهم استبداد نظام الحكم الوراثي في بيونغ يانغ، في إجبار الكثيرين على التنازل عن أبسط مقوّمات حياتهم، وفضّلوا الفرار من جحيم العيش في كوريا الشمالية، وهو الأمر الذي استغله عرّابو تجارة الجنس في الصين، ليجدوا في النساء الكوريات الشماليات ضالتهم، ويجعلوا منهم سلعة أساسية في تجارتهم.
الاتجار بالجنس لنساء كوريا الشمالية في الصين، بقي محدوداً بعد انتهاء الحرب الفيتنامية، واكتشف لأوّل مرة في ثمانينيات القرن الماضي، لينقلب خلال السنوات الماضية، إلى تجارة مربحة، تدر ملايين الدولارات.
في تلك السنوات، عبرت نساء كوريات شماليات الحدود إلى الصين لشراء البضائع، وبيعها لاحقاً في السوق السوداء، لتستغل شبكات إجرامية صينية أولئك النساء وتجبرهن على الزواج القسري والدعارة، وتسجيل شرائط فيديو إباحية بنظام الدفع مقابل المشاهدة.
لاحقاً تضخمت تجارة الجنس، بالتزامن مع تدفق عشرات الآلاف من الكوريين الشماليين إلى الحدود بين 1994-1999 للهروب من المجاعة في بلدهم الأصلي، وتم إجبار الرجال والفتيان على العمل في مواقع البناء والمزارع بأجور بخسة في ظلّ تهديدهم بالترحيل إلى وطنهم، فيما بيعت النساء والفتيات إلى عائلات صينية، وتمّ استخدامهن في الأعمال المنزلية ولاحقاً في الجنس.
ومع زيادة المعروض من الكوريين الشماليين في الصين، زاد الطلب أيضاً. ففي البلدات والقرى الريفية، أنشأت أسواق للعرائس الأجنبيات وعلى رأسهن الكوريات الشماليات، وفي المدن والبلدات الكبرى، أدّت الأجور المرتفعة إلى زيادة الطلب على الدعارة بين الذكور الصينيين.
ومن اللافت أنّ النساء الكوريات الشماليات لم يكن الضحايا الوحيدين في تجارة الجنس في الصين، بل تمّ الإتجار بنساء كمبوديات وفيتناميات ومن ميانمار. وقد أوردت صحف ومواقع إخبارية عشرات القصص تفضح هول تلك التجارة. فعلى سبيل المثال نشرت صحيفة الغارديان تقريراً عنونته بـ”حفلات زفاف في الجحيم: تهريب العرائس الكمبوديات إلى الصين” ، كما كشف موقع “آسيا نيوز” عن بيع آلاف الفيتناميات “كعبيد جنس” في الصين، في حين أورد “صوت آسيا الحرة” تقريراً تحدث عن “طلبات الزواج التي أصبحت لاحقاً كوابيس دعارة لبعض فتيات لاو”، إضافة إلى الاتجار بنساء من ميانمار في الصين وفق موقع “صوت أمريكا”.
أثمان بخسة
الضحايا من فيتنام ولاوس وكمبوديا، لبّوا تزايد الطلب في مقاطعات الصين الجنوبية، وووثّق التقرير البحثي أسعار تجارة الجنس التي تديرها منظمات إجرامية بما يلي:
عمل الفتاة الكورية الشمالية في الدعارة مقابل 30 يوان صيني أي ما يقارب الأربعة دولارات ونصف الدولار.
بيع الكورية الشمالية كزوجة مقابل 1000 يوان صيني أي ما يقارب من (150 دولارًا أمريكياً).
يدر الاستغلال الجنسي للاجئات الكوريات الشماليات في الصين أرباح سنوية لا تقل عن 105.000.000 دولار أمريكي.
عادة بعد شراء الكوريات الشماليات، يتمّ استغلالهن بالجنس حتى استنفاد أجسادهن، ليتخصلوا منهن بعد ذلك. ويشير التقرير البحثي استناداً إلى شهادات ضحايا كوريات تمّ توثيقها، إلى أنّ الكثير من الفتيات الكوريات الشماليات لقين حتفهن في الصين بسبب الأمراض المنقولة عبر الجنس، وكذلك بسبب الإعتداء الجنسي والجسدي.
توثيق
وذكرت المجلة في تقريرها، أنّها أجرت الأبحاث والمقابلات على مدار عامين، وتمّ ربط تجارب أكثر من 45 من الناجين وضحايا العنف الجنسي في أنماط واضحة للإتجار بالجنس والإستغلال. وتمّ الكشف في المقابلات عن تفاصيل جديدة عن تجارة الجنس في الصين، أبرزها أنّها تجارة معقدة ومترابطة تحقق أرباحاً طائلة من النساء والفتيات اللائي تمت المتاجرة بهن.
ولفتت إلى أنّه بناء على رغبة العديد من الضحايا، تمّ استخدام مصطلحات “العمل بالدعارة”، بدلاً من مصطلح العمل بالجنس، اعتمادا على معايير أساسية منها أن تلك التجارة يسيطر عليها بأغلبهم ذكور يقومون بتسليع جسد الأنثى، ويعتمدون على إكراه الفتيات على الدعارة، بمعنى أدق، الإجبار على العبودية الجنسية، وهي تختلف عن العمل في تجارة الجنس بهدف القصد المادي وسعياً وراء المال بالنسبة للضحايا.
ويعتمد الإكراه الجنسي، على القوّة الجسدية وغيرها من العوامل التي تجبر الفتيات على الانخراط بهذا المستنقع، مثل الفقر، وغياب المساعدة القانونية، والجوع، وكثير من الفتيات أجبرن على الجنس مقابل حصولهن على الطعام فقط.
العبودية الجنسية
ويشير مصطلح “العبودية الجنسية” إلى جميع الممارسات التي تُعرض النساء والفتيات لخطر حقيقي أو وشيك عبر التعرض لعنف جنسي.
كما يعرف الإتجار بالبشر واستغلالهم وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة، بأنّه “تجنيد الأشخاص أو نقلهم أو إيواؤهم أو استقبالهم، عن طريق التهديد بالقوة أو استخدامها أو غير ذلك من أشكال الإكراه أو الاختطاف، والإحتيال أو الخداع أو إساءة استخدام السلطة أو موقع الضعف أو إعطاء أو تلقي مدفوعات أو مزايا لتحقيق موافقة شخص يتحكم في شخص آخر بغرض الاستغلال”.
ويشمل الاستغلال على الأقل، “الاستغلال بالدعارة أو غيره من أشكال الاستغلال الجنسي أو العمل الجبري أو الخدمات أو العبودية أو ممارسات شبيهة بالعبودية أو الاستعباد أو نزع الأعضاء”.
أمّا العنف الجنسي فقد عرفته منظمة الصحة العالمية بأنه، “أي فعل جنسي، أو محاولة الحصول على فعل جنسي، أو تعليقات جنسية غير مرغوب فيها، والمتاجرة بالنشاط الجنسي للأشخاص، باستخدام الإكراه من قبل أيّ شخص بغض النظر عن علاقته بالضحية، وفي أيّ مكان، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر المنزل والعمل”.
ويقدر التقرير بأن نحو 84 % من النساء والفتيات الكوريات الشماليات اللواتي يتمّ الاتجار بهن في تجارة الجنس في الصين، هن ضحايا الإكراه أو الاختطاف أو البيع.