يُعد نظام التدريب المهني في سويسرا أحد أسباب انخفاض نسبة البطالة بين صفوف الشباب. ومن خلال التنقيب في أرشيف إحدى المؤسسات الاقتصادية، يمكن التعرّف على كيفية تأسيس التدريب المهني السويسري الحديث - ومدى التطوّر الذي شهده على مر السنين.خطة زمنية صارمة، وروح عمل قوية، وفريق عمل للمؤسسة - هذه هي عناصر نهج التدريب المهني المعتمد في مؤسسة الهندسة الكهربائية "براون، بوفري وشركائهما" أو (بي بي سي) (BBC) Brown, Boveri & Cie، والتي تُعتبر رائدة نظام التدريب المهني الثنائي المسار والشهير في سويسرا.
تعود الذاكرة بالمتقاعد أورس، أحد المتدربين السابقين في "بي بي سي"، فيقول: "لم يكن لدينا في ذلك الوقت، نظام تسجيل عدد ساعات العمل، ولكن أوقات العمل كانت محدّدة. كل صباح كان علينا المرور بالبواب، وإذا وصلنا في الوقت المحدد، كانت الأمور تجري على ما يرام. ولكن إذا تأخر أحد منا، فسوف يلفت ذلك انتباه البواب مباشرةً فيقوم بالاتصال بالمدرب المسؤول. كان هذا الأمر مُحرجاً لي نوعاً ما، لأن مدربي آنذاك لم يكن سوى والدي!".أورس هو واحد من الأصوات التي يُمكن سماعها في معرض "التعليم - قفزة عبر الزمن
رابط خارجي"، الذي يُقام حالياً في متحف بادن التاريخيرابط خارجي في شمال غرب سويسرا، حيث يتم التعرف على عملية التعليم والمسارات المهنية على مدى السنوات المائة الماضية، من خلال عرض تاريخ التدريب المهني في مؤسسة بي بي سي، كمنصة انطلاق.
هذه المؤسسة التي كان مقرها في مدينة بادن، واندمجت لاحقاً مع مؤسسات أخرى لتصبح مؤسسة "إيه بي بي" ABBرابط خارجي متعددة الجنسيات، كانت رائدة في تطوير التدريب المهني في سويسرا. وتقول مديرة المتحف كارول ناتر كارتييه لـ swissinfo.ch: "كان القيّمون على هذه المؤسسة هم أول من قاموا بإعطاء الدروس النظرية وإجراء التطبيقات العملية عليها في نفس المكان في المؤسسة".
نمت بي بي سي التي تأسست عام 1891 نموّاً سريعاً، كما ازدادت أعداد المتدربين المنتسبين إليها. وفي عام 1918، قررت المؤسسة إنشاء مدرسة للورش خاصة بها في داخل مقرها، وقدمت برامج للمعرفة النظرية، تتوافق مع المهارات العملية المطلوبة. كانت هذه هي المرّة الأولى التي يتم فيها دمج المعرفة النظرية والتطبيق العملي، والتدريب عليهما في نفس المكان؛ حيث جرت العادة أن يرتاد المتدربون بصورة رئيسية مدارس تجارية أكثر عمومية، مثل مدرسة الأشغال الحرفية التابعة للبلدية في بادن.
لاحقاً، أنشأت "إيه بي بي" في سبعينيات القرن الماضي معهداً تقنياً، كان أول معهد من نوعه في سويسرا يُخصّص للتعليم المهني العالي.
نهج المسار الثنائي
يُشكل نهج المسار الثنائي - الذي يجمع بين المعرفة النظرية والتطبيق العملي - العمود الفقري لنهج التدريب المهني الحالي المعتمد في سويسرا، وهو طريق يسلكه ثلثا الطلاب الذين لا يرغبون في الالتحاق بالدراسة الجامعية.
كما أن نظام التدريب المهني في سويسرا، الذي حاز على علامة "المعيار الذهبي" على صعيد التدريب المهني الدولي، يشكّل عاملاً مهماً في انخفاض نسبة بطالة الشباب.
وتقول ناتر كارتييه: "كان التدريب الذي يجري في أروقة مؤسسة بي بي سي يحظى بشعبية كبيرة؛ كان كل شخص يتمنى الالتحاق به. لقد كان أيضاً استثماراً للمؤسسة، حيث احتفظت فيما بعد، بالمتدربين للعمل لديها لمدة طويلة من حياتهم".
حياة التدريب المهني
كان جدول المتدرب صارماً للغاية. يبدأ في الساعة السادسة والربع صباحاً - تماماً، كما يُعلِمنا بذلك أورس - وينتهي عند الساعة السادسة مساءً. حتى خلال أيام السبت صباحاً، كان المتدرّبون يعملون أيضاً. ويُظهر برنامج الحصص في معرض الصور المنتقاة من أرشيف "إيه بي بي" التاريخي أدناه (الصورة رقم 9) جدولاً زمنياً لاختبار الدخول إلى التدريب المهني يعود لعام 1948. وبحسب هذا الجدول، فقد بدأ الاختبار آنذاك، في الساعة 6:50 صباحاً، بممارسة الرياضة لمدة 20 دقيقة (كان إدراج الرياضة، من الجهود الأخرى الرائدة التي قام بها المعنيون آنذاك)، مقسمة على فترات قصيرة من التدريب على المهارات، مثل القيام بعملية برد المطرقة وطرق استخدامها.
وتوضح ناتر كارتييه قائلة: "كان على المتدربين أن يكونوا في غاية الدقة وأن يكونوا مجتهدين ومثابرين جداً ويظهروا سلوكاً جيداً، كما أن الانضباط كان أمراً أساسياً. هذه الأمور لم يكن من شأنها مجرد اكتساب مهارات الوظيفة، بل وتعلم كل ما يحيط بها، وبتعبير آخر، إتقان العمل وتعزيز روح الحياة".
ولكن كان هناك أيضاً وقت للتسلية. فقد كانت المؤسسة تقوم بتنظيم أنشطة في أوقات الفراغ مثل الرياضات الإضافية والحرف اليدوية الأخرى. وقد حظيت فرقة الموسيقى التابعة لمؤسسة بي بي سي (الصورة الأخيرة) بشعبية كبيرة.
تقول ناتر كارتييه: "لقد كنا جميعاً في بي بي سي مثل عائلة كبيرة، مما عزز الانتماء إلى المؤسسة". وبالفعل، قد نشأت صداقات واستمرت مدى الحياة وأقيمت الزيجات بين العاملين والعاملات؛ فعلى الرغم من أن الذكور كانوا يمثلون السواد الأعظم في هذه المؤسسة، فقد كان هناك أيضاً نساء يقمن بتدريبات مهنية في مجالات مثل السكرتارية (الصورة 11) وأيضاً كفنيّات مختبر.
وماذا عن اليوم؟
كما كان المعرض بمثابة قفزة عبر الزمن وحتى وقتنا هذا؛ فهو يوضح أنه على الرغم من التطورات الكثيرة التي طرأت مع مرور الزمن، كتلك التي طرأت مثلاً، على أنواع التدريب المهني، نتيجة الرقمنة والتقدم التقني (في الماضي كنا نستخدم مصطلحات على غرار مصلح الماكينات والرسام الهندسي، واليوم أصبحنا نستخدم مصطلحات مثل الأخصائي ومبرمج الكمبيوتر)، لا تزال هناك بعض أوجه التشابه في آليات التدريب، بين الماضي والحاضر.
فلا يزال يتعين على المتدربين اتباع برنامج منتظم، وتعلم المهارات الشخصية، وكما تظهر لنا الخطوط العريضة للمعرض، هناك بعض مجالات التدريب التي ما تزال متشابهة في آلياتها إلى حد كبير بين الماضي والحاضر.
أما الاختلاف الذي طرأ على التدريب، فيكمن في أن تعليم المتدربين في "إيه بي بي" لم يعد يجري في نفس المؤسسة. ذلك أن معظم البرامج الحديثة للتدريب المهني في سويسرا تشتمل على التدريب من خلال العمل واكتساب المعرفة النظرية في مدرسة التدريب المهني. أما في "إيه بي بي" فالمتدربون التقنيون يذهبون إلى مركز التدريب المهني الصناعي - سويسرا في بادن (LIBS Industrielle Berufslehren Schweiz)، والذي يقدم تدريباً على الهندسة الميكانيكية والكهربائية للقطاع الصناعي سواء في الجزء المتعلق باكتساب المهارات أو في ورش العمل التطبيقية. ولا يزال مركز التدريب يشمباني ومختبرات الورش في بي بي سي سابقاً.
وبالطبع، لم يعد هناك أي بواب يقوم بمراقبة المتدربين، حيث يقوم المتدربون اليوم بأنفسهم، بتسجيل ساعات عملهم على جهاز الحاسوب.