ي الوقت الذي حشدت المملكة العربية السعودية مواردها لاحتواء تفشي فيروس كورونا، انتقلت حكومة الرياض من التعامل مع الفيروس باعتباره قضية محصورة في محافظة واحدة إلى مسألة تتعلق بالأمن القومي السعودي. حتى 31 مارس/آذار، أبلغت الحكومة السعودية منظمة الصحة العالمية عن 1563 حالة إصابة مؤكدة بكورنا. ظهر الفيروس لأول مرة في القطيف بالمنطقة الشرقية. وعلى الفور، تم وضع المحافظة تحت الحجر الصحي. ومع تطور الأمور في بقية مناطق المملكة، أجبر انتشار الفيروس القيادة على اعتماد نهج وطني أكثر شمولا. بنهاية مارس/آذار 2020، سجلت منطقة الرياض أعلى نسبة إصابة (36.72٪)، تليها منطقة مكة المكرمة (32.69٪)، والمنطقة الشرقية (20.02٪).
كما هو معلوم، فإن عملية اتخاذ القرار في السعودية هي عملية مركزية. ولكن الحكومة المركزية في الرياض فوضت حكومات المناطق الثلاث عشرة في المملكة لإدارة الأزمة طبقاً لقرارات الحكومة المركزية. وعليه، فإن السفر بين المحافظات ممنوع، وتم اغلاق بعض المدن والمناطق التي ظهرت فيها حالات مصابة بالفيروس. وقد شملت هذه القرارات المركزية وضع بعض المستشفيات في حالة تأهب قصوى، وفرض حظر للتجول يبدأ من الساعة الثالثة مساءً في بعض المناطق، في حين أن بقية البلاد يبدأ الحظر فيها الساعة السابعة مساءً. تفرض الحكومات المحلية اعلاق المحلات التجارية ومكوث الأفراد في المنازل خلال فترة حظر التجول. وخلال فترة عدم الحظر، تفتح بعض المتاجر والشركات أبوابها للزبائن، بما في ذلك الصيدليات ومحلات السوبرماركت، شريطة تعقيم عربات التسوق بعد كل استخدام.
في حالة القطيف، تحركت الحكومة السعودية على وجه السرعة، حيث فرضت الحجر الصحي على المنطقة ذات الغالبية الشيعية اعتبارًا من 8 مارس/آذار. وقد أثيرت العديد من الأسئلة بشأن حيثيات هذا الإغلاق، وهل كان الدافع وراء هذا الإجراء هو المخاوف الصحية فقط أم أنه ينطوي على دوافع سياسية؟
هذا سؤال معقول بالنظر إلى الاضطرابات الأخيرة التي حدثت في القطيف، والتي تدخلت الحكومة المركزية لإنهائها.
بداية تفشي الفيروس في القطيف
لتقييم دوافع الحكومة، يجب على المرء العودة إلى 2 مارس، حيث بداية اكتشاف فيروس كورونا في المملكة العربية السعودية. فقد كانت الحالات المؤكدة الأولى من السعوديين الذين عادوا من إيران، بعد انتهاء زيارتهم الدينية لضريح الإمام علي الرضا ثامن أئمة المذهب الشيعي الجعفري، والذي يقع في مدينة مشهد شرق إيران. جدير بالذكر، إن حكومة المملكة العربية السعودية قد أصدرت أمراً بمنع مواطنيها من السفر إلى إيران بسبب التوترات السياسية بين البلدين، لذلك لجأ هؤلاء الزوار السعوديون إلى السفر لإيران عبر دولة ثالثة. علاوة على ذلك، فقد أصبح من الواضح أن إيران كانت تسهل هذا السفر من خلال التغاضي عن الإجراء المعتاد لختم جوازات سفر الرعايا الأجانب الذين يدخلون الأراضي الإيرانية.
تسارعت التقارير حول تفشي كورونا في إيران بشكل مثير للقلق، خاصة مع غياب الشفافية من جانب حكومة طهران. وقد أدى ذلك إلى تضخم القلق بشأن معدل الإصابة بين السعوديين العائدين من إيران، خاصة أنه كان من الصعب الحصول على معلومات دقيقة بشأن عدد الزوار وهويتهم. أصبحت الحكومة السعودية قلقة بشأن انتشار العدوى ليس فقط بين سكان القطيف، الذين يميلون إلى الانخراط في العديد من التجمعات الاجتماعية، ولكن أيضًا القرى المجاورة للمحافظة من خلال أماكن العمل والأصدقاء والأقارب. وعليه، فقد اتخذت السلطات السعودية خطوة جدية بعزل المحافظة بأكملها من أجل احتواء انتشار فيروس كورونا خارج القطيف وضواحيها.
نظرًا لانقطاع العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، وحساسية العلاقة المتوترة بين البلدين، فقد خشي السعوديون العائدون من إيران من الملاحقة القانونية. فما كان من السلطات السعودية إلا أن قررت تعطيل النظام الذي يحاسب المخالفين لمنع السفر لإيران عن طريق تشجيع تعاون المخالفين على الإفصاح عن سفرهم لدولة محظورة، وتم إعلان العفو عن جميع السعوديين الذين زاروا إيران شريطة أن يتوجهوا على الفور إلى أقرب مستشفى لفحص فيروس كورونا، وحجر أنفسهم في منازلهم حتى استلام نتائج التحاليل. وقد طمأن هذا الإعلان المواطنين بأن الشاغل الأساسي للحكومة السعودية هو وقف انتشار الفيروس، وتقديم مصلحة المواطنين على الحساسية السياسية فيما يتعلق بالسفر إلى إيران.
وبالرغم من إصدار العفو الرسمي عن المسافرين لإيران، فإن بعض الوجوه الإعلامية اتخذت مسار التحريض الطائفي ضد أبناء القطيف والطائفة الشيعية في المملكة بكل عام، حتى أن بعض هؤلاء المحرضين كان من أبناء الطائفة الشيعية نفسها، بغرض المزايدة على قرارات الدولة فيما يتعلق بالانتماء الوطني. ومع ازدياد اكتشاف الحالات المصابة بفيروس كورونا خارج محافظة القطيف بشكل واضح، خفتت أصوات المزايدة والتحريض الطائفي التي كانت تخالف التوجه الرسمي للحكومة السعودية. في مقابل تلك الأصوات التحريضية، قدم العديد من السعوديين في جميع أنحاء البلاد الدعم الكبير للقطيف من خلال وسائل الإعلام التواصل الاجتماعي.
ثمّن أهالي القطيف القرارات الحكومية وتعاونوا معها بشكل كبير. وكان رجال الدين الشيعة أول من دعم عمل الحكومة السعودية من خلال الدعوة إلى تعليق التجمعات الدينية، بما في ذلك صلاة الجماعة والمناسبات المتعلقة بأهل البيت (مناسبات الموالد والوفيات). وقد ظهرت وجوه جديدة لرجال الدين الشيعة في وسائل الإعلام، ومن أبرزها الشيخ عادل الأسود، وهو عالم دين ذات توجه تقليدي، الذي دعا سكان القطيف إلى الالتزام بتعليمات الحكومة فيما يتعلق بالحجر المنزلي.
لا فرق بين القطيف وبقية مناطق المملكة
لم يعد انتشار فيروس كورونا محصورا في القطيف، فقد توالى تسجيل حالات جديدة في جميع أنحاء المملكة، وخاصة في ثلاث مناطق رئيسية، هي مكة المكرمة والمدينة المنورة والرياض. وكإجراء مبدئي، شهدت هذه المناطق قيودًا مثل تعليق العمل الحكومي، بدون الحجر الصحي لمدن بأكملها. ولكن مع تزايد اكتشاف الحالات، وبدأً من 25 مارس، نفذت السلطات السعودية حظراً على الرياض ومكة والمدينة. في اليوم التالي، مددت السلطات السعودية حظر التجول ليبدأ في تلك المدن من الساعة الثالثة مساءً.
يمكن تفسير التباين في فرض هذه الإجراءات بين المناطق السعودية من خلال تتبع مسار انتشار الفيروس من جهة، وحجم مكة وجدة والرياض، وهي مدن أكبر بكثير من جهة أخرى. يتطلب إغلاق مثل هذه المدن الكبيرة قدراً كبيرا من التخطيط والموارد الحكومية مقارنة بمحافظة القطيف.
في حين أن بعض المعارضين في الخارج مثل حمزة الحسن اتهموا الحكومة بتسييس الوباء من خلال إغلاق القطيف حصراً، ولكن يتم تطبيق القيود اليوم على نطاق أوسع من القطيف. وقد أعلنت النيابة العامة عن إجراءات تأديبية ضد أولئك الذين قد ينتهكون الأوامر الحكومية المتعلقة بفيروس كورونا، دون تحديد منطقة معينة.
أشار خطاب الملك سلمان بن عبد العزيز إلى نهج شامل لمكافحة الوباء، معلناً أن الحكومة السعودية ستتكفل بكافة مصاريف اختبار ومعالجة الفيروس لجميع سكان المملكة، بغض النظر عن الجنسية أو الوضع القانوني للمقيم. بعد تطبيق حظر التجول في جميع أنحاء البلاد، يرى السعوديون أن هذه القيود قد تم اتخاذها من أجل المصلحة العامة، وأن عليهم اتباع تعليمات القيادة من أجل تجاوز هذه الأزمة. وقد أعرب عدد من أبناء محافظة القطيف عن امتنانهم لاستمرار الحجر الصحي في المحافظة، والذي يضمن سلامة مجتمعها. في الواقع، فإن العديد من السعوديين يقدرون هذه الفرصة غير المتوقعة لقضاء المزيد من الوقت في المنزل.