ما إن باشرت شركة “آلفاريز آند مرسال” عملها على ملف التدقيق الجنائي حتّى تمنّع مصرف لبنان عن التعاون معها، بداية من رفضه السماح لها بالاحتكاك بموظّفيه وتوجيه الأسئلة لهم، وصولاً إلى رفض دخولها إلى أروقة المصرف والعمل داخل مكتب هناك. فحين وصلت الكرة إلى ملعب رياض سلامة، استفاد من كل الألغام الموجودة أساساً في ملف التدقيق لتفجيره، وتحديداً تلك الألغام المتعلّقة بحواجز السريّة المصرفيّة التي تفرضها القوانين اللبنانية. التسوية كانت أن يتم توجيه الأسئلة للحاكم والإجابة عنها من خلال مفوّضيّة الحكومة لدى المصرف المركزي، وهذا ما حصل. أما النتيجة فكانت رفض مصرف لبنان تزويد الشركة بأكثر من 100 مستند مطلوب لإجراء التدقيق، فيما لم تمثّل المستندات التي أرسلها سوى مجموعة من المعلومات المتاحة للعموم. وهكذا، علمت شركة التدقيق أنّ مستقبل عقدها مع وزارة الماليّة مصيره الفشل، وبدأت تعد العدّة للانسحاب من المشهد.
التدقيق الجنائي وصندوق النقد
دخل التدقيق الجنائي إلى قاموس الحياة السياسيّة اللبنانيّة من بوّابة مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي. فبالنسبة إلى الصندوق، لا يمكن منح لبنان أي قروض أو مساعدات قبل فهم مصدر الخسائر التي ألمّت بميزانيّات المصرف المركزي وتراكمت فيها على مدى السنوات الماضية، خصوصاً أنّ عدم كشف هذه الحقائق سيعني عمليّاً إمكان تكرار السيناريو ذاته مجدّداً، مع ما يعنيه هذا الأمر من تبديد لأموال قروض صندوق النقد إذا تم الحصول عليها وعدم قدرة لبنان على الإيفاء بالتزاماته للصندوق. علماً أن شركة لازارد كانت قد قدّرت في تقريرها الأوّل حجم الخسائر المتراكمة في ميزانيّات مصرف لبنان بنحو 63.6 مليار دولار، وهو ما يوازي وحده نحو 113 في المئة من الناتج المحلّي للبلاد في السنة الماضية. وهكذا، تحوّل التدقيق الجنائي إلى شرّ لا بدّ منه بالنسبة إلى أقطاب السلطة، خصوصاً أن الدخول في برنامج مع الصندوق لم يعد ضروريّاً للحصول على قروض الصندوق فقط، بل بات مسألة مصيريّة لكون جميع الجهات الدوليّة المانحة أو المقرضة الأخرى أصبحت تربط قروضها أو مساعدتها بدخول لبنان في برنامج مع صندوق النقد، حيث تعتبر هذه الجهات أن برامج الصندوق تمثّل ضمانة لإلتزام لبنان ببرنامج إصلاحي متكامل. وربّما لهذا السبب تحديداً، أصرّ بيار دوكان مبعوث الرئيس الفرنسي لتنسيق الدعم الدولي للبنان، على إبلاغ جمعيّة المصارف بنبرة حاسمة جدّاً: عدم إجراء التدقيق الجنائي سيعني اختفاء لبنان!
بالتالي، لم يرتبط دخول الفكرة فعليّاً بحرص أقطاب السلطة على الشفافيّة ومصارحة اللبنانيّين بأسباب الأزمة اللبنانيّة، بل كانت الفكرة بالنسبة إليهم مجرّد التزام فُرض عليهم بالقوّة. ومن الناحيّة العمليّة، ومنذ طرح الفكرة، بدأ معظم أقطاب الحكم بالسعي إلى زرع العراقيل والألغام في هذا الملف لتفجيره والإجهاز عليه، أو على الأقل إفراغه من جوهره وتحويله إلى تدقيق شكلي غير قادر على كشف أي شيء. أمّا العهد ورئيس الحكومة السابق حسّان دياب، فحاولا منذ البداية استخدام الملف إعلاميّاً لمحاصرة حاكم المصرف المركزي وتطويقه، لتصفية حسابات شخصيّة سابقة، من دون أن يسعيا فعلاً إلى معالجة العراقيل القانونيّة التي تعرقل مسار التدقيق الجنائي. باختصار، أرادا من التدقيق الجنائي الضجة الإعلاميّة التي تصوّر حاكم مصرف لبنان بصورة المرتكب الذي تتقفّى أثره شركات التدقيق، لكن من دون أن يحدث التدقيق الجنائي فعلاً.
التدقيق الجنائي والتدقيق المحاسبي
قبل الدخول في شرح المسار الذي أفضى إلى اغتيال التدقيق الجنائي، قد يكون من المفيد الدخول في توضيح تقني لمعنى التدقيق الجنائي، وما يميّزه عن التدقيق المحاسبي العادي، خصوصاً أن حاكم المصرف المركزي لطالما تفاخر بأنّ ميزانيّاته تخضع سنويّاً لتدقيق محاسبي من قبل شركتين عالميّتين.
ففي التدقيق المحاسبي العادي، تختار شركات التدقيق عادةً عيّنات من العمليّات المحاسبيّة التي تم تسجيلها في مؤسسة ما، لتدرس نوعيّة الإجراءات أو القيود التي يتم اعتمادها لتسجيل هذه العمليّات. وفي العادة، تصرّح شركات التدقيق المحاسبي منذ البداية بأن مسؤوليّتها هي إعطاء الرأي بخصوص طريقة تسجيل القيود، أما إعداد المعلومات والبيانات نفسها، فهو من مسؤوليّة إدارة المؤسسة موضوع الدرس وليس شركة التدقيق، أي أن شركة التدقيق المحاسبي لا تتدخّل في ما وراء الأرقام والقيود التي أعدّتها الإدارة لتدرس إمكان حصول عمليّات تزوير أو فساد أو عمليّات كسب غير مشروع.
عمليّاً، كما ذكرنا سابقاً، كانت قيود مصرف لبنان وميزانياته تخضع إلى نوع من التدقيق من شركات عالميّة بتكليف من المصرف نفسه. وعلى رغم محدوديّة نطاق هذا التدقيق، أبدت شركة “ديلويت آند توش” –إحدى الشركات المكلّفة بهذه المهمّة- تحفّظات كبير على ممارسات محاسبيّة غريبة قام بها مصرف لبنان بالنسبة إلى ميزانيّات عام 2018، من قبيل إخفاء الخسائر المتراكمة في أحد بنود موجودات المصرف تحت مسمّى “أصول أخرى”، وتسجيل أرباح لم تتحقق بعد من طبع النقد تحت بند الأصول. كما تحفّظت شركة التدقيق المحاسبي على أمور أخرى كعدم السماح لها بإجراء جردة على موجودات مصرف لبنان من الذهب.
أما في حالة التدقيق الجنائي، فتختلف الأمور. شركات التدقيق الجنائي غالباً ما تذهب ما وراء الرقم، لتبحث في أسباب حصول هذه العمليّات، إضافة إلى المستفيدين منها وإمكان انطواء هذه العمليّات على كسب غير مشروع. وبينما قد تبدو عمليّات كثيرة صحيحة من الناحية المحاسبيّة البحت، تذهب شركة التدقيق الجنائي إلى الربط بين هذه العمليّات المختلفة، وتحاول البحث عن احتمالات حصول عمليّات احتياليّة تلتف على القواعد المحاسبيّة المعتمدة. باختصار، ينطلق التدقيق الجنائي من فرضيّة حصول الاحتيال محاولاً البحث أبعد من القيود، فيما ينطلق التدقيق المحاسبي من فرضيّة سلامة المعلومات –على مسؤوليّة إدارة المؤسسة موضوع التدقيق- محاولاً التحقق من سلامة طريقة تسجيل القيود.
تفخيخ قانوني
من الواضح، بحسب طبيعة عمل شركات التدقيق الجنائي، أن تثير الفكرة بحد ذاتها هواجس ومخاوف كثيرة لدى جميع أقطاب السلطة، خصوصاً كون دهاليز المصرف المركزي والقطاع المالي تحتوي على قدر لا يمكن الاستخفاف به من المصالح المتقاطعة بين النافذين في المنظومة الماليّة وأصحاب القرار في السلطة السياسيّة. ولذلك، بدأ العمل على تفخيخ مسار التدقيق الجنائي منذ اللحظة الأولى التي جرى فيها طرح هذه الفكرة على طاولة مجلس الوزراء.
منذ البداية، أدرك المستشارون المتحمّسون لهذا الموضوع، انطلاقاً من حماستهم للدخول في برنامج مع صندوق النقد، أن ثمّة عوائق قانونيّة واضحة ينص عليها قانونا النقد والتسليف والسريّة المصرفيّة. فمن الطبيعي أن يتعذّر الحصول على معلومات وافية عن طريقة تهريب سيولة القطاع المالي والأطراف المستفيدة من هذه العمليّة في المرحلة التي تلت الانهيار المصرفي الكبير، طالما أن قانون السريّة المصرفيّة يحرّم إفشاء أي معلومات تخص الحسابات الدائنة لدى المصارف، كما يحرّم الحصول على أي معلومات تتعلّق بحركة هذه الحسابات ومآل التحويلات التي أجريت منها. كما من البدهي أن يتعذّر الحصول على معلومات تخص طريقة حصول الهندسات الماليّة وفئات المودعين التي استفادت منها، كون الحصول على معلومات تخص حركة الودائع في النظام المصرفي محميّة بموجب القانون نفسه.
حين وصلت الكرة إلى ملعب رياض سلامة،
استفاد من كل الألغام الموجودة أساساً في ملف التدقيق لتفجيره.
ولهذا السبب، سعى هؤلاء الاستشاريّون إلى الدفع باتجاه صوغ مشروع قانون يحتوي تعديلات على القوانين التي تعيق إجراء التدقيق الجنائي، من أجل إزالة هذه العراقيل القانونيّة قبل إجراء التدقيق، وقد طرحت وزيرة العدل في ذلك الوقت ماري كلود نجم هذا الموضوع بالفعل على الحكومة. لكنّ مجلس الوزراء سرعان ما تغاضى عن الدخول في هذا المسار القانوني، ولم يعمل المجلس على صوغ مسودّة أي مشروع قانون لهذه الغاية. في المقابل، لم تتحرّك لجنة المال والموازنة على هذا الخط، مع العلم أنّها اللجنة التي كان يفترض أن تحرّك الموضوع بحكم اختصاصها، فيما رئيس اللجنة إبراهيم كنعان من التيار المحسوب على العهد، والذي لطالما لوّح بالتدقيق الجنائي كشعار في مواجهة حاكم مصرف لبنان. ومع سقوط فكرة إقرار التعديلات القانونيّة المطلوبة لإنجاز التدقيق، أدرك الجميع أن التدقيق الجنائي سيكون أمام احتمالين: إما أن يكون تدقيق شكلي وفضفاض لا يكشف شيئاً، وإما أن يفشل إنجازه منذ البداية. لقد تم هنا وضع اللغم الأوّل في عربة التدقيق الجنائي.
الإطاحة بشركة كرول
اللغم الثاني، تعلّق بهويّة الشركة التي ستقوم بهذا التدقيق. ففي البداية، طُرح اسم شركة “كرول” لتقوم بهذا التدقيق، علماً أن شركة “كرول” تُعد من الشركات المتخصصة بهذه المسألة تحديداً، وكان من المتوقّع أن ترفض “كرول” أن تتورّط بتدقيق شكلي لا يملك كامل مقوّمات التدقيق الجنائي الحقيقي، نظراً إلى خطر هذه المسألة على سمعتها العالميّة. هنا، تصدّر الثنائي الشيعي المشهد ورفع الفيتو في وجه “كرول” من بوابة علاقتها مع إسرائيل، على رغم أن جميع الشركات الاستشاريّة العالميّة بما فيها تلك التي كانت تعمل كمدقق محاسبي في مصرف لبنان تمتلك مكاتب في إسرائيل ويعمل فيها إسرائيليون.
في أي حال، كانت نتيجة هذا الفيتو الاستغناء عن فكرة الاستعانة بشركة “كرول”، فيما قرر مجلس الوزراء بدفع من وزير الماليّة الانتقال إلى شركة “آلفاريز آند مرسال”، التي تتنوّع أنشطتها على مروحة واسعة من الخدمات الاستشاريّة الماليّة، فيما لا يمثّل التدقيق الجنائي إحدى المسائل الأساسيّة التي تتخصص بها. علماً أن الشركة نفسها تعرّف عن نفسها كشركة رائدة في مجال تطوير الأداء وإدارة التحوّل لدى الشركات، وهو ما أعطى السلطة بعض الأمل بإمكان الاتفاق مع الشركة على تدقيق شكلي قد لا يمكّنها من الدخول في الكثير من التفاصيل التي لا يريد أحد الدخول فيها.
ألغام العقد
تم التفخيخ إذاً: العراقيل القانونيّة موجودة وحاضرة ليستخدمها سلامة حين يشاء، وشبح “كرول” صار خارج الصورة، والكرة صارت في ملعب وزير الماليّة في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني للتفاهم مع “آلفاريز آند مرسال” على تفاصيل عقد التدقيق. وما إن خرج العقد إلى العلن، حتّى تبيّن أن مسار التدقيق الجنائي جرى الإجهاز عليه هنا كليّاً. لم يعمل وزني بكثير من المقترحات التي طالبت بضم مجموعة “أغمونت” العالميّة كطرف في هذا العقد، مع العلم أن مجموعة “أغمونت” تمثّل منتدى دولي لوحدات المعلومات الماليّة، وكان دخولها كفيل بضبط أداء مصرف لبنان خلال هذا المسار كون المصرف منضوي في هذه المجموعة وملزم بالإمتثال لها. أما حجّة الوزير فكانت إجرائيّة بحت: مجلس الوزراء كلّفني بتوقيع العقد مع “آلفاريز آند مرسال”، ولا أملك صلاحيّة ضم طرف ثالث. ضاعت المسؤوليّة هنا بين الوزير والمجلس، تماماً كما ضاعت مسؤوليّة كل الألغام السابقة.
أما العقد نفسه، فمفخخ بكثير من الألغام الأخرى. نطاق أعمال الشركة لا يضم الكثير من الأمور التي حرص اللبنانيّون على معرفة تفاصيلها، كإمكانيّة حصول عمليّات تهريب لسيولة النظام المصرفي بعد تشرين الأوّل من العام الماضي، مع العلم أن شركة التدقيق كانت قادرة على تأكيد حصول عمليّات التهريب هذه، ولو كانت معرفة هويّة الأطراف التي إستفادت من هذه العمليّات متعذّرة –كما ذكرنا- بفضل حواجز السريّة المصرفيّة. أما ما جرى ضمّه إلى نطاق أعمال عقد التدقيق فعلاً، فهو مجموعة من المهمّات التي كان يعرف من صاغ العقد أنّها لن تنكشف بفضل العراقيل القانونيّة، كحركة الودائع خلال فترة حصول الهندسات الماليّة مثلاً.
طار التدقيق
هكذا إذاً تم تفخيخ العقد الجنائي بألاعيب محكمة منذ البداية، وهكذا وصل ملف التدقيق جثّة هامدة حين وضع حاكم مصرف لبنان يده عليه، فالحواجز القانونيّة كانت حاضرة لتكون حجّة الحاكم لرفض التعاون، وغياب آليّات فرضه كانت حاضرة للتملّص من الامتثال لطلبات الدقيق، أمّا اللجنة التي عيّنها وزير الماليّة للإشراف على التدقيق فغاب عنها أي خبير متخصص بالتدقيق الجنائي وهو ما سهّل تهرّب الحاكم من طلبات اللجنة. باختصار، لن يكشف آثار الجريمة من ارتكبها، فأقطاب الحكم الذين لطالما تشابكت مصالحهم وارتكاباتهم مع مصالح وارتكابات القطاع المالي، لن يسهّلوا حكماً الكشف عما حصل من جرائم ماليّة كانت نتيجتها أكبر انهيار مصرفي عرفه العصر الحديث.